فقه النوازل: الإجتهادات الفقهية المعاصرة

هذه النقطة من تمرينات للمادة الإجتهادات الفقهية المعاصرة تحت الموضوع فقه النوازل
 
السؤال الأول
تكلّم عن فقه النوازل من حيث الآتية:
‌أ.       معنى الفقه والنوازل لغة واصطلاحا بَيْنَ المذاهب المختلفة.
النوازل جمع نازلة، والنازلة في اللغة: اسم فاعل من نزل ينزل إذا حلَّ. وقد أصبح اسمًا على الشدة من شدائد الدهر.
أولاً    : تُطلق النوازل في اصطلاح الحنفية خاصة على: الفتاوى والواقعات، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لَمّا سُئلوا عن ذلك، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهلم جرا.
ثانيًا    : تُطلق النوازل في اصطلاح المالكية خصوصًا في بلاد الأندلس والمغرب العربي على: القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاة طبقًا للفقه الإسلامي. ومن هذا الوجه فقد قصد جمع من فقهاء المالكية إلى جمع وتقريب هذا النوع من المسائل. وقد تطلق النوازل في إصطلاح المالكية أيضا على الأسئلة والأجوبة والفتاوى.
ثالثًا    : شاع واشتهر عند الفقهاء عامة إطلاق النازلة على: المسألة الواقعة الجديدة التي تتطلب اجتهادًا وبيان حكم. ومن ذلك: قول ابن عبد البر: «باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة.



‌ب. المراد بالنازلة المشمولة بالقيود الثلاثة؛ الوقوع والجدة والشدة، ثمّ استخرج التعريف منها.
والمقصود أن النازلة لابد من اشتمالها على ثلاثة معان: الوقوع، والجدة، والشدة. وقد جمع هذه القيود الثلاثة التعريف الآتي: ما استدعى حكمًا شرعيًا من الوقائع المستجدة. أو يُقال: هي الوقائع المستجدة الملحَّة.
الوقوع أو الحوادث     : ومعنى الوقو، الحلول  والحصول. مأخوذة من وقع الشيء بمعنى نزل. وقد خرج بهذا القيد أي المسائل غير النازلة وهي المسائل الإفتراضية المقدرة، وهذه المسائل نوعان: إما مسائل يستحيل وقوعها وإما مسائل يبعد وقوعها. ولما كانت المسائل الواقعة على قسمين: قسم سبق وتكرر وقوعها من قبل، وقسم لم يتقدم له وقوع. ويراد بها أيضا الشيء الذي يقع على غير، ولها عدة صور:
                              i.            حوادث جديدة تقع لأول مرة، مثل: النقود الورقية، وزراعة الأعضاء.
                           ii.            حوادث جديدة تغيّر حكمها لتغير ما اعتمدت عليه من عرف، مثل: صور قبض المبيع المعاصرة.
                        iii.            حوادث اشترك في تكوينها أكثر من صورة من الصور القديمة، مثل: عقد الاستصناع، بيع المرابحة للآمر بالشراء. تحتاج إلى حكم شرعي: يخرج بهذا القيد الحوادث التي لا تحتاج إلى حكم شرعي، مثل، الزلازل والكوارث والبراكين.

الجدة   : ومعنى الجدة هي عدم وقوع المسألة من قبل، والمراد بذلك عدم التكرار وهي بمعنى المسألة الحادثة التي لا عهد للفقهاء بها، حيث لم يسبق أن وقعت من قبل. ومعناه أيضا أن تكون حالة تتطلب إجابة عاجلة؛ كالفتاوى التي تتعلق بوقت عبادة حالة، كفتاوى الإحرام وفتاوى الصوم لمن خشي فوت الوقت أو الإجهاض لمن خشيت مرور أربعة أشهر.
وأن تكون مستجدة؛ وأعني بها الحوادث التي لم يذكر العلماء فيها حكما، فإن ذكروا فيها حكما ونظرا لتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص تغير الحكم الفقهي فليست بنازلة، ولكنه تغير الحكم في الفتوى اقتضاه تغير الزمان أو المكان أو الأحوال أو الأشخاص. أو "تلك الأمور المستحدثة، التي استجدت في العصر الحديث، ولم تكن موجودة بالفعل –كقضايا مستقلة- لدى الفقهاء القدامى، وسبب استحداثها هو العصر وما حدث فيه من تطور استدعى وجودها راحة البشرية، وسعيها دائما للتطور، والقصد نحو ابتكار ما يريحها، ويوفر لها وقتها".
فالنازلة إذن وفق هذه الضوابط تعني: المسائل المستجدة التي تحتاج إلى حكم شرعي، وعندما يضاف الفقه إليها يعني أن الاهتمام كله عائد إلى البحث عن الحكم الفقهي لهذه الحادثة المستجدة.

الشدة  : كما عرفنا النازلة في اللغة هي اسم فاعل من نزل ينزل إذا حلَّ. وقد أصبح اسمًا على الشدة من شدائد الدهر. ومعنى الشدة هي أن تستدعي هذه المسألة حكما وشرعيا بحيث تكون ملحّة من جهة النظر الشرعي. وقد خرج بهذا القيد أي ما نزل من وقائع جديدة إلا أنها غير ملحّة من الناحية الشرعية.

‌ج.  ما هي الفرق بين النوازل الوقائع والمستجدة وما هو جوهر الفرق فيها.
فائدة في الفرق بين النوازل والوقائع والمستجدات: تبين لنا مما سبق أن النوازل إنما تُطلق على المسائل الواقعة إذا كانت مستجدة، وكانت ملحَّة، ومعنى كونها ملحَّة أنها تستدعي حكمًا شرعيًا.
وأما الوقائع فإنها تُطلق على كل واقعة مستجدة كانت أو غير مستجدة، ثم إن هذه الواقعة المستجدة قد تستدعي حكمًا شرعيًا وقد لا تستدعيه، بمعنى أنها قد تكون ملحَّة وقد لا تكون ملحَّة.
وأما المستجدات فإنها تُطلق على كل مسألة جديدة، سواء كانت المسألة من قبيل الواقعة أو المقدَّرة، ثم إن هذه المسألة الجديدة قد تستدعي حكمًا شرعيًا وقد لا تستدعيه، بمعنى أنها قد تكون ملحَّة وقد لا تكون ملحَّة. وجوهر الفرق: أن النوازل يتعلق بها ولابد حكم شرعي، أما الوقائع والمستجدات فلا يلزم أن يتعلق بها حكم شرعي.
معنى فقه النوازل باعتباره لقبًا على علم معين: يمكن تعريف فقه النوازل باعتباره عَلَمًا ولقبًا بأنه: معرفة الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة المُلِحَّة. وبهذا يظهر أن العلاقة بين علم الفقه وعلم فقه النوازل عي العموم والخصوص الوجهي؛ ذلك أنهما يجتمعان في معرفة أحكام الوقائع العملية المستجدة.
ثم إن علم الفقه أعم من علم فقه النوازل من جهة أن الفقه يشمل معرفة أحكام المسائل العملية، سواء أكانت هذه المسائل واقعة أم مقدرة، مستجدة أم غير مستجدة. كما أن علم فقه النوازل أعم من علم الفقه من جهة أن فقه النوازل يشمل الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة، سواء كانت هذه الوقائع عملية أو غير عملية.

السؤال الثاني
اذكر البيان في الموضوع الآتي:
‌أ.       معنى الموازل باعتباره لقبا على علم معين.
معنى فقه النوازل باعتباره لقبًا على علم معين: يمكن تعريف فقه النوازل باعتباره عَلَمًا ولقبًا بأنه معرفة الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة المُلِحَّة. وبهذا يظهر أن العلاقة بين علم الفقه وعلم فقه النوازل عي العموم والخصوص الوجهي؛ ذلك أنهما يجتمعان في معرفة أحكام الوقائع العملية المستجدة.
ثم إن علم الفقه أعم من علم فقه النوازل من جهة أن الفقه يشمل معرفة أحكام المسائل العملية، سواء أكانت هذه المسائل واقعة أم مقدرة، مستجدة أم غير مستجدة. كما أن علم فقه النوازل أعم من علم الفقه من جهة أن فقه النوازل يشمل الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة، سواء كانت هذه الوقائع عملية أو غير عملية.

‌ب. تقسيم النوازل باعتباراتها المتعدّدة.

يمكن تقسيم النوازل باعتبارات متعددة إلى ما يأتي:
1 ـ تنقسم النوازل بالنظر إلى موضوعها إلى:
نوازل فقهية    : وهي ما كان من قبيل الأحكام الشرعية العملية.
نوازل غير فقهية : مثل النوازل العقدية؛ كظهور بعض الفرق والنحل، والصور المستجدة للشرك، ومثل المسائل اللغوية المعاصرة؛ كتسمية بعض المخترعات الجديدة، وهنالك قضايا تربوية حادثة، واكتشافات علمية مبتكرة.
وبهذا يُعلم أن مصطلح فقه النوازل يشمل جميع النوازل؛ فقهية كانت أو غير فقهية. أما إطلاق مصطلح (فقه النوازل) على النوازل الفقهية خصوصًا وقصره عليها دون غيرها فهو أمر غير دقيق، بالرغم من شيوعه، والأولى أن يُسمى هذا القسم من النوازل بالنوازل الفقهية، أو نوازل الفقه.

2 ـ تقسيم النوازل من حيث خطورتها وأهميتها إلى:
نوازل كبرى: وهي القضايا المصيرية التي نزلت بأمة الإسلام، وأعني بذلك تلك الحوادث والبلايا التي تدبر للقضاء على المسلمين من قبل أعدائهم، وما يتصل بذلك من المكائد والمؤامرات والحروب المعلنة وغير المعلنة، في شتى المجالات العسكرية والفكرية والاقتصادية والسياسة والاجتماعية.
ونوازل أخرى دون ذلك: ولا شك أن القضايا المصيرية لابد في مواجهتها وعند بيان حكمها من جمع الكلمة على الهدى، ونبذ الخلاف، والنأي عن التعصب؛ إذ لا يليق بمثل هذا النوع من النوازل الاعتماد على رأي فرد أو اجتهاد طائفة معينة.

3 ـ تنقسم النوازل بالنظر إلى كثرة وقوعها وسعة انتشارها إلى:
                              i.            نوازل لا يسلم، في الغالب، من الابتلاء بها أحد؛ كالتعامل بالأوراق النقدية.
                           ii.            نوازل يعظم وقوعها؛ كالصلاة في الطائرة، والتعامل بالبطاقات البنكية.
                        iii.            نوازل يقل وقوعها؛ كمداواة تلف عضو في حد أو بسبب جريمة وقعت منه.
                        iv.            نوازل قد انقطع وقوعها واندثرت، وصارت نسيًا منسيًا؛ كاستخدام المدافع والبرقيات في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه.

4. تنقسم النوازل بالنسبة لجدتها إلى:
نوازل محضة: وهي التي لم يسبق وقوعها من قبل، لا قليلاً ولا كثيرًا، مثل أطفال الأنابيب.
نوازل نسبية: وهي التي سبق وقوعها من قبل، لكنها تطورت من جهة أسبابها والواقع المحيط بها، وتجددت في بعض هيئاتها وأحوالها، حتى صارت بهذا النظر كأنها نازلة جديدة، مثل بيوع التقسيط، والعمليات الطبية الجراحية، والزواج بنية الطلاق. وهذا القسم من النوازل، على وجه الخصوص، يفتقر ولابد إلى تحديث مستمر وتجديد لما يتعلق به من صفات وهيئات.

‌ج.  أسباب وقوع النوازل، وحكم الاجتهاد في النوازل وأهميتها.

من أسباب وقوع النوازل هي:
1.    التطور العلمي والتقدم الصناعي: لقد شهد هذا العصر ثورة صناعية هائلة، فقد تم اختراع الطاقة الكهربائية وتغيرت وسائل التنقل وتطورت وسائل الاتصال والإعلام والتعليم واخترعت أجهزة طبية لم تعرف من قبل وصنعت أغذية واكتشفت عقاقير جديدة للاستعمال البشري والحيواني والزراعي. أو يقال التطور التقني المذهل الذي تشهده البشرية في الآونة الأخيرة مما يؤدي إلى ظهور صور وأنماط من المعاملات والممارسات تتطلب تكييفا شرعياً لها.

2.   الفجور     : وهو تفريط الناس في الإلتزام بأحكام هذا الدين. ومما يلحق به وربما اندرج تحته، أي التوسيع في الملذات من المطاعم والمساكن والمراكب والملابس، والإنشغال بالملاهي، والإستكثار من المكاسب، والتشبه بالكافرين. ويمكن أن يقال جرأة الناس على المخالفات، وإقدامهم عليها سالكين كافة الطرق، وقد قال عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، "تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور."

أهمية دراسة النازلة والاجتهاد فيها
1.   بيان كمال الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان
2.   القيام بالفرض الكفائي بتحقيق الاجتهاد فيها
3.   تحقيق التميز الإسلامي في التعامل مع المستجدات، برفض بعضها، أو تحويره، أو قبوله تبعا للحكم الشرعي الذي تأخذه النازلة
4.   مساعدة الأمة على مواكبة العصر تقنياً فيما لا يحرم من وسائل التطور التقني والصناع
5.   إعطاء النوازل المستجدة حكمها في كل عصر يدخل دخولاً أولياً تحت مهمة تجديد الدين تجديداً شرعياً، وإحياء ما اندرس من معالمه، كما في حديث الرسول الكريم (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)
6.    تفويت الفرصة على أعداء الشريعة، في سعيهم لتنحيتها عن أمور الحياة بدعوى مواكبة المستجدات .

‌د.     مراحل المدارك في معرفة الحكم على الموازل مع مثال واحد في الطهارة.

مدارك الحكم على النوازل
الناظر في نازلة من النوازل متى أراد دراستها والتوصل إلى حكمها كان عليه أن يسلك المنهج الآتي: التصور، ثم التكييف، ثم التطبيق. قال ابن سعدي: "جميع المسائل التي تحدث في كل وقت، وسواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تتصور قبل كل شيء".
فإذا عُرفت حقيقتها، وشُخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورًا تامًا بذاتها ومقدماتها ونتائجها طُبقت على نصوص الشرع وأصوله الكليه؛ فإن الشرع يحل جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية؛ يحلها حلاً مرضيًا للعقول الصحيحة، والفطر السليمة.

المدرك الأول: التصور
إن تصور الشيء تصورًا صحيحًا أمر لا بدّ منه لمن أراد أن يحكم عليه، وكما يقال: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فتصور النازلة مقدمة لا مناص عنها ولا مفر منها لمن أراد الاجتهاد في استخراج حكمها. إن الإقدام على الحكم في النوازل دون تصورها يعد قاصمة من القواصم، وهذا باب واضح لا إشكال فيه، والباب الذي يأتي من جهته الخلل والزلل إنما هو القصور والتقصير في فهم النازلة وتصورها، وليس في تحصيل أصل التصور.

وتصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا قد يتطلب:
                                 i.            استقراء نظريًا وعلميًا.
                              ii.            وقد يفتقر إلى إجراء استبانة، أو جولة ميدانية، أو مقابلات شخصية.
                           iii.            وربما احتاج الأمر إلى معايشة ومعاشرة.
               iv.      وربما كان سؤال أهل الشأن والاختصاص كافيًا؛ كمراجعة أهل الطب في النوازل الطبية، وأصحاب التجارة والأموال في والمعاملات المالية وهكذا.

المدرك الثاني: التكييف
يمكن تعريف التكييف بأنه: تصنيف المسألة تحت ما يناسبها من النظر الفقهي, أو يقال: هو رد المسألة إلى أصل من الأصول  الشرعية. وتكييف النازلة متوقف على تحصيل أمرين، أي أمر خاص يتعلق بخصوص النازلة، وأمر عام.

أما الأمر الأول: فهو أن يحصل للناظر الفهم الصحيح والتصور التام للمسألة النازلة. وهذا ما مضى بيانه في المدرك السابق.

والأمر الثاني: وهو أن يكون لدى الناظر المعرفة التامة بأحكام الشريعة وقواعدها، وهذا إنما يتأتى لمن استجمع شروط الاجتهاد، من الإحاطة بالنصوص ومعرفة مواقع الاجتماع والاختلاف، والعلم بدلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، بحيث تكون لديه القدرة على استنباط الأحكام من مظانها.
قال ابن القيم ـ رحمه الله: "وَلا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلا الْحَاكِمُ من الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلا بِنَوْعَيْنِ من الْفَهْمِ: أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ، وَالْفِقْهِ فيه، وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ ما وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالأَمَارَاتِ وَالْعَلامَاتِ؛ حتى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ في الْوَاقِعِ، وهو فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الذي حَكَمَ بِهِ في كِتَابِهِ، أو على لِسَانِ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا على الآخَرِ. فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في ذلك لم يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أو أَجْرًا. فَالْعَالِمُ من يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فيه إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"

وتكييف النازلة , إنما يحصل بواحد من أربعة مسالك على الترتيب الآتي:
                                    i.            النص والإجماع.
                                 ii.            التخريج على نازلة متقدمة.
                              iii.            التخريج على قاعدة فقهية أو أصل شرعي أو فتوى إمام متقدم.
                              iv.            الاستنباط.

المسلك الأول: البحث عن حكم النازلة في نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وذلك إما بدلالة العموم، أو المفهوم، أو الإيماء، أو الإشارة، أو القياس.
المسلك الثاني: الاجتهاد في إلحاق هذه النازلة بما يشابهها من النوازل المتقدمة؛ لتقاس عليها، وتأخذ حكمها، وهذا ما يسمى بالتخريج. ومن الأمثلة على ذلك ما يسمى بالبوفيه المفتوح أو الإطعام حتى الإشباع؛ إذ يمكن إلحاقه بالحمامات التي وقع الإجماع على جوازها من باب الاستحسان؛ فإن من يدخل هذه الحمامات يتفاوتون في استهلاك الماء، مع كون الأجرة مقدرة للجميع.

المسلك الثالث: النظر في اندراج حكم هذه النازلة تحت بعض القواعد الفقهية أو الأصول الشرعية، أو ضمن فتاوى بعض الأئمة المتقدمين، وهذا يسمى أيضًا بالتخريج. ومن الأمثلة على ذلك أي مشروعية السعي فوق سطح المسعى، عملاً بالقاعدة الفقهية: الهواء يأخذ حكم القرار وتحريم تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم؛ لأن مقامهم مقام عظيم عند الله وعند المسلمين، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.

المسلك الرابع: الاجتهاد في استخراج حكم مناسب لهذه النازلة بطريق الاستصلاح أو سد الذرائع أو غيرهما، وهذا يسمى بالاستنباط. ومن الأمثلة على ذلك أي الحكم بجواز زراعة الأعضاء؛ طلبًا لمصلحة المريض المستفيد، وحفظًا لحياته، والحكم بمنعها حفظًا لحق المريض المتبرع أو من في حكمه، وصيانة لحرمته و      القول بمشروعية الفحص الطبي قبل الزواج ندبًا أو وجوبًا؛ لما يترتب عليه من درء لمفسدة انتشار بعض الأمراض الوراثية في الأولاد.

المدرك الثالث: التطبيق
تطبيق الحكم على النازلة يُراد به: تنزيل الحكم الشرعي على المسائل النازلة. ذلك أن تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا، ثم تكييفها من الناحية الفقهية، كفيلان بمعرفة حكم النازلة المناسب لها، وهذا هو النظر الجزئي الخاص، أما تنزيل هذا الحكم على النازلة فهو أمر آخر؛ إذ يحتاج ذلك إلى نظر كلي عام. ومن القواعد المقررة شرعًا وعقلاً وعرفًا في تطبيق الأحكام الخاصة على محالّها: أن ينسجم هذا التطبيق مع المصالح العليا؛ بحيث لا يفضي تحصيل المصلحة الجزئية إلى تفويت مصلحة عظمى.
ومن الأمثلة على ذلك أي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقتل رأس المنافقين، مع ما فيه من المصلحة الظاهرة التي يدل عليها النظر الخاص، وذلك مراعاة للمصلحة العليا. والمراد بالمصلحة العليا في الشريعة: المحافظة على الكليات الخمس: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال).
ثم إن تنزيل الأحكام على النوازل أمر يحتاج إلى فقه دقيق ونظر عميق، وقد أشار السبكي إلى الفرق بين الفقيه المطلق، وهو الذي يصنِّف ويدرِّس، وبين الفقيه المفتي، وهو الذي يُنزِّل الأحكام الفقهية على أحوال الناس والواقعات، وذكر أن الفقيه المفتي أعلى مرتبة من الفقيه المطلق، وأنه يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدائه.
وإذا عُلم أن تطبيق الحكم على النازلة لابد فيه من المحافظة على مقاصد الشريعة؛ فإن هذه المحافظة تكون بمراعاة ثلاث قواعد:
الأولى: الموازنة بين المصالح والمفاسد في الحال والمال.
الثانية: تقدير حالات الاضطرار وعموم البلوى.
الثالثة: اعتبار الأعراف والعادات واختلاف الأحوال والظروف والمكان والزمان.

المدرك الرابع التوقف:
يمكن أن نضيف مدركًا رابعًا، وهو التوقف في الحكم على النازلة. وإنما يُصار إليه عند العجز عن تصور الواقعة تصورًا تامًا، أو عند عدم القدرة على تكييفها من الناحية الفقهية، أو عند تكافؤ الأدلة وعدم القدرة على ترجيح قول من الأقوال.
قال ابن عبد البر: "ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه، لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل، وهذا الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا، فتدبره."

‌ه.   من المزالق في بيان النوازل المعاصرة.
المراد بالمزالق التي يراد بها التنبيه عليها في هذه المسألة: تلك المداخل الخفية والأخطاء الدقيقة التي تحصل لكثير ممن يفتي في النوازل. ذلك أن الوقوع في هذه المزالق حاصل مع توافر الضوابط الثلاثة من حيث الجملة، أعني بذلك ضوابط الاجتهاد في النوازل التي ورد بيانها في المسألة السابقة.

المزلق الأول: التعضية، وهو تقسيم النازلة إلى أجزائها التي تتركب منها، مع إعطاء كل جزء حكمه الخاص به، كل على حدة، دون اعتبار للقدر الحاصل من التركيب والاجتماع.
ومن الأمثلة على ذلك: أن يقال في بيع المرابحة، هو عبارة عن ثلاثة عقود: عقد وكالة، وعقد مواعدة بالشراء، وعقد بيع بالتقسيط، وكلها عقود صحيحة، وبناء على ذلك فبيع المرابحة عقد صحيح لا غبار عليه.
هذا ما نطق به بعض المفتين، ممن يقول بالجواز، من غير التفات إلى المعنى الحاصل من حصول هذه العقود الثلاثة مجتمعة، ودون نظر إلى الهيئة الجديدة المتولدة عن هذا التركيب.
وقد ذكر بعض المفتين، ممن يقول بالمنع ـ أن بيع المرابحة مع كونه مكونًا من هذه العقود الثلاثة إلا أن الظروف التي تحيط به والدوافع التي أدت إلى الأخذ به وانتشاره تفيد أنه ليس إلا صورة من صور التحايل على الربا؛ حيث إن البائع، وهو البنك الممول. يريد أن يقرض المشتري بفائدة، وكذلك المشتري؛ فإنه يريد أن يقترض من البنك بفائدة، وإنما جعلت هذه السلعة بينهما حيلة، حتى تنتقل صورة الافتراض بفائدة إلى ما يسمى بيع المرابحة.

المزلق الثاني: الحيدة عن الواقع، ذلك أن كثيرًا من المفتين في النوازل إذا سئل عن نازلة معينة أجاب عن حكم هذه النازلة من حيث الأصل، ثم يأتي بشروط الحكم، والحال: أن هذه الشروط يبعد جدًا،  بحسب الواقع، توافرها في النازلة  .
        ومن الأمثلة على ذلك: أن بعض المفتين حينما سُئل عن حكم الإيجار المنتهى بالتمليك قال: يجوز، فقال له السائل: لكنهم يلزموننا بالتأمين، فقال: لا توافقهم على التأمين، بل خذ السيارة بدون تأمين، التأمين ليس بلازم.
        إن هذا المفتي كان عليه أن يجلي الصورة الحاصلة في الواقع، وهي أن الإيجار المنتهي بالتمليك بحسب الواقع لا بد فيه من التأمين، وكان عليه أن يقول: إن الإيجار المنتهي بالتمليك مع اشتراط التأمين يجوز، أو: لا يجوز.
المزلق الثالث: قضية المصطلحات والألفاظ المجملة، من الضروري عند الحكم على نازلة من النوازل النظر إلى حقائق الأمور، وعدم الاغترار بأسمائها، إذا الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالحقائق والمعاني،  لا بالألفاظ والمباني.
إن التلاعب بالألفاظ الشرعية بات سمة في كثير من المعاملات المشبوهة، وآية ذلك أنك لو نظرت في جميع المعاملات الصادرة عن جميع البنوك القائمة في العالم الإسلامي لا تجد تحت خدماتها معاملة يطلق عليه اسم الربا صراحة! لا فرق في ذلك بين البنوك الإسلامية وغير الإسلامية. فهل هذا يدل على أن هذه المعاملات كلها ليست من الربا، وأن الربا لا يوجد لدى هذه البنوك؟
والقاعدة المطردة والأصل المتبع: استعمال الأسماء الشرعية في تسمية الأمور ما أمكن، لكن إن وجدت نازلة ليس لها اسم شرعي فالواجب أن تعطى اسمًا لغويًا يناسبها ويدل على حقيقتها من حيث الدلالة اللغوية.

المزلق الرابع: الغفلة عن تطور النوازل وانقلابها، ذلك أن حقيقة النازلة قد يطرأ عليها شيء من التغير والتحول، وهذا التغير ربما يفضي إلى أن تنتقل حقيقة النازلة بالكلية عن حقيقتها السابقة، يحدث هذا مع أن اسم النازلة باق في كلتا الحالتين.
إن البقاء على التصورات الأولى للنازلة والبناء عليها والركون إليها يوقع في اختلال التصور وانتكاس الفهم. فلا بد إذن من تحديد المعلومات لمن أراد أن يتصور النازلة تصورًا تامًا، خاصة وأننا في هذا العصر ـ عصر السرعة ـ نشهد تجددًا دائمًا ونلحظ تغيرًا مطردًا في الأساليب والهيئات والأفكار. ومن الأمثلة على ذلك: شراء الأسهم؛ فقد كانت الأسهم قبل أكثر من عقدين تختص في الغالب ببعض القطاعات؛ كشركات الكهرباء ومصانع الإسمنت، وقد وقعت الفتوى إذ ذاك بحلية شراء هذه الأسهم، أما في وقتنا هذا فقد تغيرت الأوضاع؛ حيث إن هذه الشركات المساهمة أصبحت تقوم بإيداع السيولة المالية في البنوك الربوية وأخذ الفوائد عليها، وصارت تستثمر في القروض الطويلة الأجل بفائدة ربوية. فهل يسوغ استصحاب الفتوى السابقة في جواز شراء أسهم الشركات وتطبيقها على أسهم الشركات القائمة الآن؟

المزلق الخامس: الميل بالناس إلى التيسير والتخفيف، دون اعتبار لمقاصد الشريعة وقواعدها العامة: بناء على أن هذا هو الأصلح لأحوال الناس في هذا العصر بسبب انصرافهم بمغريات الحياة عن الالتزام بأحكام الدين، فكان من المتعين تقريب هذا الدين إلى تلك النفوس الضعيفة، وتأليف هذه القلوب المريضة، كيما تنشط لقبول أحكام الشريعة والإقبال عليها، قالوا: وهذا أمر واجب محتم، خاصة وأن القول بالتيسير والأخذ بهذه الرخصة أو تلك لا بد أن يوجد له مستند ما يؤيده ويعزز اتباعه؛ من نص مأثور أو قول إمام متبوع.

المزلق السادس: الميل بالناس إلى التشديد والمنع دون اعتبار لمقاصد الشريعة وقواعدها العامة،
بناء على ذلك هو الأحوط، وهو الأصلح لأحوال الناس الذين غلب عليهم التساهل والتفريط في الأخذ بعزائم الشريعة مما قد يفضي في المآل إلى الانسلاخ الكامل من أحكام الدين.

المزلق السابع:الاحتجاج بالإفتاء الجماعي، والاقتصار عليه وجعله مستندًا يُستغنى به عما سواه:
والمراد بالإفتاء الجماعي: ما يصدر من فتاوى وبيانات عن بعض المجامع واللجان العلمية.

المزلق الثامن: الاحتجاج بالإفتاء الفردي والبناء عليه والتسليم له،: والمراد بالإفتاء الفردي: ما يصدر من فتاوى وبيانات عن واحد من أهل العلم.

مظان فقه النوازل

المراد بمظان فقه النوازل: المصادر التي تتميز بذكر النوازل وبيان أحكامها. ويمكن تصنيف هذه المصادر إلى سبعة أنواع:
أولاً: الكتب المؤلفة في النوازل.
ثانيًا: الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات العلمية.
ثالثًا: التوصيات والدراسات الصادرة عن المؤتمرات والندوات الخاصة ببعض النوازل.
رابعًا: القرارات والبيانات والفتاوى الصادرة عن المجامع الفقهية واللجان والهيئات العلمية.
خامسًا: فتاوى المعاصرين الفردية التي يغلب عليها العناية بالنوازل المعاصرة.
سادسًا: الوسائل الجامعية.

سابعًا: الشبكة العالمية (الانترنت).

حاكم عكاسيسا
مدينة جديد بانخي،
5 جماد الأول 1427هـ.

Comments